جنين | منذ أن انفتح الجرح لجوءاً وبعداً عن ساحل قيسارية المحتلة، هامت عشيرة العصاعصة على وجهها في الأرض، فحطّ بعضها جنوب جنين في قرية مثلث الشهداء أو المثلث المكنى باسمهم جنوب جنين، أيضاً قرب قرية جبع، وإربد وسوريا وغيرها.ناجح، ابن تلك العشيرة، كان ميلاده في مثلث الشهداء جنوب جنين، اقترن بابنة عمّه ليكوّنا بيتاً جديداً، فكان. أنجبا ثلاثة أبناء ذكور (محمد وهزّاع وأحمد) قبل أن يرتحلوا إلى إربد سعياً وراء لقمة العيش، فاكتملت الأسرة بأربعة ذكور آخرين (علاء الدين ورامي ورزق وعبدالله) وبنتين، ولما ضاقت عليهم الأرض في الأردن عادوا إلى أرض الوطن -باستثناء الوالد بسبب المنع الاحتلالي- لتبني سواعدهم السبعة حلماً وحداً موحداً في صورة من التعاضد والتكافل والتكامل الفريدة.

الفجر الأسود
سبع هِمَم تعمل بجد ونشاط، لتبني نفسها، عمل أصحابها في الزراعة والخضر وحسبة قباطية وفي البناء، تظللهم أم محبة جامعة، تعيش معهم أحلامهم لحظة بلحظة، وتوثق كل جميل في هذه الصورة يوماً بيوم، تكاد لا تغادرهم. ورغم أن ابنها الشاب هزاع كان يعاني من الفشل الكلوي منذ الميلاد، إلا أن هذه الحالة الصحية لم تهزّ عزم الأسرة في سعيها نحو النجاح والاستقرار. كان كل هذا حتى أتت تلك الليلة التي سهروا فيها جميعهم حول هزاع، وهم يتسامرون ويتحدثون ويتابعون ما تذكره الأخبار المحلية، من أن هناك اجتياحاً واسعاً لمدينة جنين ومخيمها في ليلة السادس من كانون الثاني الفائت، وأن هناك مقاومة شديدة لهذا الاجتياح بدأت بتفجير سيارة جيب عسكرية حاولت دخول المخيم من المنطقة الجنوبية المعروفة بالجابريات.
تحدّث الإعلام العبري عن إصابات صعبة في جنود الاحتلال، كانت الآليات المحتلة تمر بالقرب من قرية مثلث الشهداء ذهاباً وإياباً إلى جنين ومخيمها، ترافقها كما يبدو من أصواتها الطائرات المُسيّرة الحربية المذخّرة والاستخبارية، ومع اقتراب الليل من ثلثه الأخير، بدأت الأخبار تتناقل خبر بدء انسحاب جيش الاحتلال من المخيم والمدينة في أكثر من اتجاه بعد فشل المهمة. هزاع الذي ينتظر موعد جلسة الغسيل الكلوي الأسبوعية، رفض النوم وآثر أن ينزل إلى المقهى المقابل لقريتهم، ليحتسي كوب شاي قبل أن يذهب إلى جلسة الغسيل، فنهض برفقته أشقاؤه الثلاثة رامي وعلاء وأحمد، بينما ذهب محمد ورزق للعمل في الحسبة القريبة من البيت، وبقي الصغير عبدالله في البيت.
دقائق كان الإخوة الأربعة بجانب المقهى الواقع على شارع نابلس جنين الرئيسي، والذي تفصله «جزيرة» متوسطة يجلس عليها أحياناً بعض الزبائن وهم يشعلون النار، ويحتسون المشروبات الساخنة قبل التوجه إلى أعمالهم. هناك التقى الإخوة الأربعة بثلاثة من أبناء عمومتهم، وجلسوا في وسط الجزيرة بعد أن أشعلوا النار طلباً للدفء، كما طلبوا سبعة أكواب شاي، وهم يتحدثون عن الاجتياح الفاشل، والخسارة التي لحقت بجيش الاحتلال في المخيم، ويشهدون انكفاء آخر دوريات الاحتلال التي كانت تمر بجانبهم من دون أن تقوم بأي شيء.
أحضر النادل الشاي وعاد لتلبية طلبات زبائن غيرهم، وما كاد يدخل المقهى، حتى حدث الانفجار الكبير، صاروخ من مُسيرة احتلالية ضرب السبعة في وسط الجزيرة. لحظات مرعبة انجلى دخانها وغبار الصاروخ، ليتبدّى المشهد: أجساد السبعة متناثرة في المكان، والدم غطى كل ناحية. هرع الحاضرون نحوهم، فهزّهم المشهد، وبدأ الصراخ لطلب الإسعاف والنجدة. دقائق، سرت الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الأم التي روّعها صوت الانفجار أحست بقلق بالغ وشعور غريب، اتصلت بهم واحداً تلو الآخر، لا جواب، اتصلت بشقيقهم محمد، قال لها: هناك شهداء قرب المقهى. يبدو أن أخي هزاع من الشهداء كما ظهر بالفيديوهات التي تتناقلها المواقع.
نقلوا السبعة إلى مستشفى الشهيد الدكتور خليل سليمان الحكومي في جنين، ستة منهم، بمن فيهم الأشقاء الأربعة، كانوا قد سلّموا الروح، أمّا سابعهم فلحق بهم بعد حين.
يقول شقيقهم محمد الذي يغلبه الحزن الشديد المخلوط بالاحتساب والصبر: «لم نكن مجرد إخوة وعائلة متكاتفة فقط، بل كنا حلماً كبيراً غير مجزّأ. كنت خاطباً، وكانوا يتحدثون معي عن عرسي، كنا نلتقي كل حين، وكل ليلة، نتحدث عن كل ما نتمنى إنجازه وفعله بحب وشغف وانتظار. لكن الصاروخ الذي أخذ إخوتي الأربعة نسف الحلم الواحد الموحّد لهذه العائلة».
أما الأم، فكأنها جبل الصبر، فبقدر ما في وجهها الواثق المؤمن من ملامح الوجع والبكاء، بقدر ما فيه من رفعة وجمال. يبدو ذلك في نبرة صوتها التي ازدادت تألقاً، وفي جبينها الشامخ الأبيّ، في حركة يديها، في الاعتناء بمقتنيات أولادها الشهداء الذين رحلوا بأجسادهم، وظلوا بأرواحهم حاضرين. وهكذا أيضاً تعتني العائلة بأضرحة الشهداء في مقبرة مثلت الشهداء، فهي جميلة ومزيّنة ونظيفة، كأنهم باقة ورد في بستان الشهادة في فلسطين.
من يعرف هذه العائلة، من يقترب منها ويدرك قصتها، تنقلب فيه مشاعر الحزن إلى مشاعر ربما لم تدرك من قبل إلا في الملمات والصعاب، إنها مشاعر الصبر والاحتساب.